كيفية قياس مدى التحوّل الرقمي في البلدان العربية

صفا مصطفى, 28 فبراير/شباط 2019

يعيد الانتقال إلى الرقمنة تشكيل الاقتصاديات والمجتمعات، إذ تعتبر الرقمنة للاقتصاد والتي تشهدها العديد من البلدان في العالم واعدة للغاية من ناحية تحفيز الابتكار وتوليد الكفاءات وتحسين الخدمات في كافة قطاعات الاقتصاد. وعليه، فقد أضحت الرقمنة شرطًا ضروريًا للنمو الشامل والمستدام والرفاه العام.[1]

 

يتم في بعض الأحيان تعريف "الاقتصاد الرقمي" بشكل ضيّق على أنه يشمل المنصات الإلكترونية على شبكة الإنترنت وأنشطتها الملازمة، ولكن، وبمعنى أوسع، فإن كافة الأنشطة التي تستخدم البيانات الرقمية هي جزء من الاقتصاد الرقمي. وبالتالي، وفي الاقتصادات الحديثة، يمكن أن يشكل الاقتصاد الرقمي جزءًا أساسياً من معظم اقتصاديات الدول، بدءًا من قطاع الزراعة إلى مجال البحث والتطوير.[2]

 

ولا يجوز حصر الاقتصاد الرقمي بقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات (ICT)، وتقوم العديد من البلدان بالاعتراف بأهميته لتعزيز القدرة التنافسية والنمو الاقتصادي وتحقيق الرفاه الاجتماعي. وعليه فلدى معظم بلدان منظمة التعاون الاقتصاي والتنمية استراتيجية رقمية قومية - باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية[1]؛ وتكون هذه الاستراتيجيات في معظم الحالات استراتيجيات شاملة ومشتركة عبر القطاعات المختلفة.[3][4]

 

ومع تزايد أهمية الاقتصاد الرقمي، أصبح من الضروري قياس مدى تقدّم الدول العربية نحو هذه الظاهرة المتصاعدة، وهناك العديد من المؤشرات القياسية على المستوى الدولي في هذا المجال، منها مؤشر تطبيق الرقمنة (Digital Adoption Index, 2016) الصادر عن البنك الدولي، ومؤشر التطور الرقمي (Digital Evolution Index, 2017) لكليّة فليتشر في جامعة تافتس، بالشراكة مع ماستركارد، ومؤشر الرقمنة (the Digitization Index,  2016) لشركة البحث BBVA Research، وتصنيف التنافسية الرقمية العالمي (World Digital Competitiveness Ranking, 2018) لمركز التنافسية العالمية  (IMD World Competitiveness Center)، ومؤشر التمكين الرقمي (Enabling Digitalization Index(EDI) 2018) الصادر عن شركة أليانز وأولر هيرميس.

 

وفي الغالب تركّز هذه المؤشرات على جانبي العرض والطلب في الاقتصاد الرقمي، وتتضمن ثلاث جهات فاعلة رئيسية هي المواطنين والحكومة والقطاع الخاص. كما تتضمن أيضًا هذه المؤشرات قياسات تعكس الجوانب المؤسسية والتنظيمية للنظام البيئي الرقمي. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه هناك بعض الإختلافات بين هذه المؤشرات، فعلى سبيل المثال، يضم مؤشر التطور الرقمي مؤشرات تتعلق بالابتكار. من ناحية أخرى، فنجد أن مؤشر التمكين الرقمي يختلف قليلًا عن باقي المؤشرات لأنه لا يقيس نتائج الرقمنة بل يركّز على الظروف التي تسمح للشركات بالتحول أو الازدهار الرقمي. كما يتم تعريف التنافسية الرقمية العالمية من قبل مركز التنافسية العالمية من خلال ثلاثة عوامل رئيسية (المعرفة والتكنولوجيا والجاهزية المستقبلية) لقياس قدرة البلد على تطبيق واستكشاف التقنيات الرقمية التي تؤدي إلى تحول في ممارسات الحكومة وخلق نماذج أعمال والتأثير على المجتمع بشكل عام.

 

وعلى المستوى الإقليمي، فنجد أيضًا أنّ هناك بعض الجهود لقياس الاقتصاد الرقمي. فعلى سبيل المثال قامت منظمة الإسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) في الآونة الأخيرة بتقديم دراسة بعنوان "آفاق الاقتصاد الرقمي في المنطقة العربية" لقياس مدى تحول البلدان العربية نحو الاقتصاد الرقمي. ويستند الأسلوب المنهجي للدراسة على ستة عناصر (قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات: الابتكار والجوانب المالية؛ البنية التحتية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والقدرة على تحمل تكلفتها؛ القدرات البشرية والبحث العلمي؛ استخدام الأفراد وقطاع الأعمال والحكومات لأدوات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؛ الأثر الاقتصادي؛ الأثر الاجتماعي). ولتحليل هذه العناصر، تم دراسة مؤشرين أساسيين، وهما مؤشر الجاهزية الشبكية (Networked Readiness Index) ومؤشر الابتكار العالمي (Global Innovation Index)، ذلك بالإضافة إلى الاستعانة بمؤشرات أخرى. وكذلك، تم إجراء تقييم مماثل لبعض بلدان المنطقة العربية (البحرين ومصر والأردن والكويت ولبنان وعمان وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة) من قبل معهد ماكينزي من خلال ما يسمى بمؤشر الرقمنة الصناعية (Industry Digitization Index) في عام 2016.

 

وبشكل عام، تؤول كافة هذه القياسات في معظم الحالات إلى النتائج نفسها. و يستند  التحليل التالي على النتائج المقدمة في التقرير الذي نشرته مؤسسة (ICANN) في عام 2017 حول الاقتصاد الرقمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا مع  إدخال بعض التعديلات المستندة إلى نتائج من مصادر أخرى. 

 

يمكن تصنيف بلدان المنطقة العربية في ما يتعلق بالتقدّم الذي أحرزته نحو الاقتصاد الرقمي إلى أربع مجموعات أساسية، وذلك على الرغم من التنوع الاقتصادي والثقافي بين بلدان هذه المنطقة. وتقع بلدان مجلس التعاون الخليجي في المجموعة الأولى الأكثر تطورًا؛ وهي البلدان ذات الدخل المرتفع في المنطقة العربية؛ وتتمتع بنسب مرتفعة من نفاذ الإنترنت ومعدلات عالية من الإلمام بالقراءة والكتابة، وفي معظم الحالات معدلات منخفضة نسبيًا لبطالة الشباب. وتشمل المجموعة الثانية الأردن ولبنان، والتي تتمتع بنسب مرتفعة من نفاذ الإنترنت بفضل الطابع الحضري لهذين البلدين. وتشمل المجموعة الثالثة بلدان شمال أفريقيا ذات الدخل المتوسط الادنى (الجزائر ومصر والمغرب وتونس) وتتمتّع هذه البلدان بمستويات للناتج المحلي الإجمالي مماثلة لبلدان الشرق الأوسط، إنما تتدنّى فيها معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة ويصل عدد السكان غير المستخدمين للإنترنت فيها إلى 100 مليون مواطن. أما المجموعة الأخيرة فتشمل البلدان المتأثرة بالنزاعات، وهي اليمن والعراق وسوريا وفلسطين والسودان وليبيا والبلدان الأقل نمواً (جزر القمر وجيبوتي وموريتانيا والصومال).

 

تجدر الإشارة إلى أن المؤشرات لا تصنّف البلدان العربية بالترتيب نفسه ولا تؤول إلى النتائج ذاتها، فهناك بطبيعة الحال بعض الاختلافات. فنجد على سبيل المثال، أن الأردن قد تقدَّمت على الكويت في كلٍ من مؤشر الرقمنة ومؤشر التمكين الرقمي؛ إنما تم تصنيفها بعد تونس والمغرب في مؤشر تطبيق الرقمنة. ومثال آخر؛ نجد أن لبنان قد تجاوزه الأردن في مؤشر التمكين الرقمي وتم تصنيفه في المرتبة 90 بحسب مؤشر الرقمنة من بين 100 بلد حول العالم. كما أنه هناك  فرق في عدد البلدان العربية المشمولة من قبل هذه المؤشرات. فعلى سبيل المثال، يشمل مؤشر التنافسية الرقمية 4 بلدان عربية فقط، كما يشمل مؤشر التطور الرقمي 6 بلدان عربية؛ ما يجعلهما الأقل شمولية من حيث عدد البلدان العربية المتضمنة.

 

ويقدّم مؤشر الرقمنة لمعهد ماكينزي (2016) تحليلًا أكثر تعمّقًا. وتشير نتائج هذا المؤشر إلى أنه من ناحية الطلب، يقود المواطنون رقمنة الشرق الأوسط وتعَدّ الإمارات وقطر والبحرين من بين أفضل البلدان في العالم في هذا الإطار، حيث تجاوزت نسبة نفاذ  الهواتف الذكية الـ 100% ونسبة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الـ7% -وهي نسب أعلى حتى من الولايات المتحدة الأميركية. لكن يختلف الأمر بالنسبة إلى رقمنة القطاع الحكومي والأعمال؛ حيث تتوفر خدمات الحكومة الذكية الرقمية لـ 6% فقط من سكان  بلدان الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، تتأخر بلدان المنطقة بشكل كبير في مجال رقمنة قطاع الأعمال، مع قلة توفر رأس المال الاستثماري اللازم لتمويل الشركات الناشئة وانخفاض نسبة مشاركة القوى العاملة في المهن والصناعات الرقمية. وهنا أيضًا، جاءت دول مجلس التعاون الخليجي في المقدمة؛ حيث يوجد لديهم عدد شركات رقمية أكبر من تلك الموجودة في كل من مصر والأردن ولبنان. ومن جانب العرض، وعلى الرغم من تحقيق بعض بلدان المنطقة تقدمًا كبيرًا، إلا أن هذه البلدان لا زالت تواجه تحديات جمة لتوجيه جهودها نحو تشجيع الابتكار ودفع رقمنة  القطاع العام إلى مستويات متقدمة. وتقود  كل من قطر والبحرين جانب العرض والابتكار في المنطقة وذلك بفضل نسبة التغطية العالية لشبكات الجيل الثالث والأسعار المنخفضة.

 

وفي الختام، فإن المنطقة تعَدّ مستوردًا صافيًا ومستهلكًا للرقمنة بدلًا من كونها فاعلا أساسيا في تطوير أصول وخدمات الرقمنة. ولكن تظل الفرصة سانحة أمامها لجني ثمار التحول الرقمي عبر تضافر جهود الحكومات والقطاع الخاص والأفراد، ولا سيما في ظل الفجوة بين جانب الطلب من قبل الشباب العربي "الذكي رقميًا" وجانب العرض.

 

 


[1] تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية نهجًا لا مركزيًا يحدّده السوق لاستراتيجيتها الرقمية.
 

[1] منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD)، 2017. القضايا الرئيسية للتحول الرقمي في مجموعة العشرين. تم إعداد التقرير من أجل مؤتمر مشترك بين رئاسة ألمانيا ومؤتمر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في برلين، في 12 كانون الثاني/يناير. [أونلاين]. متوفر على: https://www.oecd.org/g20/key-issues-for-digital-transformation-in-the-g20.pdf [تم الدخول 28 كانون الأول / ديسمبر 2018].

[2] صندوق النقد الدولي، 2018. قياس الاقتصاد الرقمي. تقرير الموظفين الذي أعده موظفو صندوق النقد الدولي وتم استكماله في 28 شباط / فبراير 2018. [أونلاين]. متوفر على: https://www.imf.org/~/media/Files/Publications/PP/2018/022818MeasuringDigitalEconomy.ashx [تم الدخول 28 كانون الثاني / ديسمبر 2018].

[3] منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD)، 2015. توقعات الاقتصاد الرقمي لعام 2015. [أونلاين] متوفر على: http://www.oecd.org/sti/oecd-digital-economy-outlook-2015-9789264232440-en.htm [تم الدخول 28 كانون الثاني/ديسمبر 2018].

[4] منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD)، 2017. توقعات الاقتصاد الرقمي لعام 2017. [أونلاين] متوفر على: http://www.oecd.org/internet/oecd-digital-economy-outlook-2017-9789264276284-en.htm [تم الدخول 28 كانون الثاني/ديسمبر 2018].

 

 

إنّ كافة الآراء الواردة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي البوابة العربية للتنمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

صفا مصطفى صفا مصطفى

الأكثر قراءة